فصل: فَصْل في الحذر من مُجالسة الظلمة الأطغياء والجهلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في الحذر من مُجالسة الظلمة الأطغياء والجهلة:

وعلى العاقل الناصح لنفسه أن يحذر من مُجَالَسَة الظلمة الأطغياء والجهلة ممن غلب عَلَيْهمْ الأمن من مكر الله حَتَّى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا بطش الله، وسطوته ولا نار الْعَذَاب ولا بعد الحجاب، قَالَ الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فهَذَا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين كَانَ أشد النَّاس خوفًا ففي الصحيح: «أَنَا أعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية».
وَفِي صحيح الْبُخَارِيّ عَنْ أم العلاء امرأة من الأنصار أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عَلَيْهمْ بالقرعة، قَالَتْ فطار لَنَا- أي وقع- فِي سهمنا عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم ومتعبديهم وممن شهد بدرًا.
فاشتكى فمرضناه حَتَّى إِذَا توفي وجعلناه فِي ثيابه دخل عَلَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: رحمة الله عَلَيْكَ أبا السائب، فشهادتي عَلَيْكَ لَقَدْ أكرمك الله تَعَالَى، فقَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه». فَقُلْتُ: لا أدري بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ.
فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما عثمان فقَدْ جاءه اليقين، وَاللهِ إني لأرجو لَهُ الْخَيْر». أي فالإنكار عَلَيْهَا من حيث جزمها بتلك الشهادة من غير مستند قطعي، فكَانَ اللائق بها أن تأتي بها فِي صيغة الرجَاءَ لا الجزم كما فعل صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: وكثيرًا ما أسمَعَ وأرى فِي الكتب قول بَعْض النَّاس المرحوم أَوْ المغفور لَهُ، ولا أدري ما هُوَ مستندهم بإيرادها بصيغة الجزم والأولى أن يقَالَ المرجو لَهُ الرحمة والغفران. اهـ.
ثُمَّ قال: صلى الله عليه وسلم: «ما أدري، وأنَا رسول الله ما يفعل بي». قَالَتْ: فوالله لا أزكي أَحَدًا بعده. أي على جهة الجزم وأما على جهة الرجَاءَ وحُسْن الظَّنِ بِاللهِ فجائز، قَالَتْ: وأحزنني فنمت فرَأَيْت لعثمان عينا تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «ذَلِكَ عمله».
ولما توفي عثمان هَذَا قَبَّلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَدَّهُ وبكى حَتَّى سالت دموعه الكريمة على خد عثمان، وبكى القوم فقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «اذهب عَنْهَا أي الدُّنْيَا أبا السائب لَقَدْ خرجت عَنْهَا ولم تلبس بشَيْء». وسماه صلى الله عليه وسلم السَّلَف الصالح وَهُوَ أول من قُبِرَ بالبقيع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فتأمل زجره صلى الله عليه وسلم عَنْ الجزم بالشهادة على عثمان هَذَا مَعَ كونه شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أطلع على أَهْل بدر فقَالَ: اعملوا ما شَئتم فقَدْ غفرت لكم، وكونه قَبَّلَهُ وبكى ووصفه لَهُ بأعظم الأوصاف وَهُوَ أنه لم يتلبس من الدُّنْيَا بشَيْء وبأنه السَّلَف الصالح، تعلم أنه ينبغي للعبد وإن عمل من الطاعات وما عمل أن يكون على حيز الخوف والخشية من الله تَعَالَى.
يَا رَبِّ هَيِءْ لَنَا أَمْرَنَا رَشَدَا ** وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا

وَلا تَكِلْنَا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسَنَا ** فَالْعَبْدُ يَعْجَزُ عَنْ إصْلاحِ مَا فَسَدَا

أَنْتَ الْعَلِيمُ وَقَدْ وَجَّهْتُ يَا أَمَلِى ** إِلَى رَجَائِكَ وَجْهًا سَائِلاً أَبَدَا

وَلِلرَّجَاءَ ثَوَابٌ أَنْتَ تَعْلَمُه ** فَاجْعَلْ ثَوَابِي دَوَامَ السَّتْرِ لِي أَبَدَ

وروى شداد بن أوس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الكَيِّسُ من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني».
وقَالَ علي بن أبي طالب: وقَدْ سلم من صلاة الفجر وقَدْ علته كآبة وَهُوَ يقلب يده، لَقَدْ رَأَيْت أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فلم أرى شَيْئًا يشبهم اليوم، لَقَدْ كَانُوا يصبحون شعثًا صفرًا غبرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قَدْ باتوا لله سجدًا، وقيامًا يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم.
فإذا أصبحوا ذكروا الله، فما دوا كما يميد الشجر فِي يوم الريح وهمت أعينهم بالدموع حَتَّى تبل ثيابهم، وَاللهِ كأني بالقوم غافلين.
ثُمَّ قام فما رُؤْيَ بعد ذَلِكَ ضاحكَا حَتَّى مَاتَ رحمة الله عَلَيْهِ.
لله دَرَّ رِجَالٍ وَاصَلُوا السَّهَرَا ** وَاسْتَعْذَبُوا الْوَجْدَ وَالتَّبْرِيحَ وَالْفِكَرَا

فَهُمْ نُجُومُ الْهُدَى وَاللَّيْلُ يَعْرِفُهُمْ ** إِذَا نَظَرْتَهُمُوا هُمْ سَادَةُ بُرَرَا

كُلٌّ غَدَا وَقْتُهُ بِالذِّكْرِ مُشْتَغِلاً ** عَمَّا سِوَاهُ وَلِلَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا

يُمْسِي وَيُصْبَحُ فِي وجْدٍ وَفِي قَلَقٍ ** مِمَّا جَنَاهُ مِن الْعِصْيَانِ مُنْذَعِرَا

يَقُولُ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا ** بِالذَّنْبِ فَاغْفِرْ لِي يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرَا

حَمَلْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا لا أَطِيقُ لَهُ ** وَلَمْ أَطِعْ سَيِّدِي فِي كُلِّ أَمْرَا

عَصَيْتُهُ وَهُوَ يُرْخِي سِتْرَهُ كَرَمًا ** يَا طَالمَا قَدْ عَفَا عَنِّي وَقَدْ سَتَرَا

وَطَالمَا كَانَ لِي فِي كُلَّ نَائِبَةٍ ** إِذَا اسْتَغَثْتُ بِهِ مِنْ كُرْبَةٍ نَصَرَا

وَإِنَّنِي تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وَقَدْ ** وَافَيْتُ بَابَكَ يَا مَوْلايَ مُعْتَذِرَا

لَعَلَّ تَقْبَلُ عُذْرِي ثُمَّ تَجْبُرُنِي ** يَوْمَ الْحِسَابِ إِذَا قُدِّمْتَ مُنْكَسِرَا

وَقَدْ أَتَيْتُ بِذُلٍّ رَاجِيًا كَرَمًا ** إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا

ثُمَّ الصَّلاة عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ** عِدَادَ مَا غَابَ مِنْ نَجْمٍ وَمَا ظَهَرَا

وقَالَ معاوية لضرار بن حمزة الصدائي: صف عليًا. قَالَ: ألا تعفيني. قَالَ: بل صفه. قَالَ ألا تعفيني. قَالَ: لا أعفيك. قَالَ: أما إنه لابد. فإنه كَانَ بعيد المدى، واسع العلوم والمعارف، لا تدرك غايته فيهما شديد الْقُوَى فِي ذات الله، ونصرة دينه، يَقُولُ فضلاً، ويحكم عدلاً، ينفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدُّنْيَا، وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته.
كَانَ والله غزير الدمعة، طويل الفكر، يقلب كفه، تأسفًا وحزنًا، إذ هَذَا فعل المتأسف الحزين، ويخاطب نَفْسهُ، بالمزعجات، والمقلقات، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما حضر.
كَانَ والله كأحدنا إِذَا سألناه، ويأتينا إِذَا دعوناه، وَنَحْنُ وَاللهِ مَعَ تقربه لَنَا وقربه منا لا نكلمه هيبة لَهُ، فَإِنَّ تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أَهْل الدين ويحب المساكين، ولا يطمَعَ القوي فِي باطله ولا ييأس الضعيف من عدله.
واشهد الله لَقَدْ رأيته فِي بَعْض مواقفه، وقَدْ أرخى الليل ستوره، وغارت نجومه، وقَدْ تمثل فِي محرابه، قابضًا على لحيته، يتململ تململ اللديغ، ويبكى بُكَاء الحزين، وكأني سمعته يَقُولُ: يَا ربنا يَا ربنا. يضرع إليه.
ثُمَّ يَقُولُ: يَا دنيا يَا دنيا إِلَيَّ تعرضت أم تشوقتي هيهات هَيهات غري غيري، وقَدْ بَتَتْتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي فيك فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزَّاد، وبعد السفر، ووحشة الطَرِيق، فذرفت عين معاوية على لحيته، فما ملكها وَهُوَ ينشفها بكمه، وقَدْ اختنق القوم بالبكاء.
قَالَ معاوية: رحم الله أبا الحسن كَانَ وَاللهِ كذلك، فَكَيْفَ حزنك عَلَيْهِ يَا ضرار؟ قَالَ: حزن من واحدها فِي حجرها فلا ترقا عبرتها ولا يسكن حزنها.
وقَالَ أبو ذر وددت لو أني شجرة تُعْضَدُ وَكَذَا قَالَ طلحة ابن عبيد الله أحد العشرة.
وقَالَ عمران بن حصين: وددت أن أكون رمادًا تنسفه الرياح.
وكَانَ علي بن الحسين إِذَا توضأ أصفر لونه، فَيَقُولُ لَهُ أهله: ما هَذَا الَّذِي يعتادك عَنْدَ الوضوء، فَيَقُولُ: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عَنْ الخائفين، فقَالَ: قُلُوبهمْ، بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا، وَهَذَا منه بيانٌ عَنْ الخائفين بحسب حاله رَحِمَهُ اللهُ.
وَمَا مَن يَخَافُ الْبَعْثَ وَالنَّارَ آمِنٌ ** وَلَكِنْ حَزِينٌ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ

إِذَا مَرَّ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ** وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ

ومر الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ بشاب وَهُوَ مستغرق فِي ضحكه جالس مَعَ قوم فقَالَ لَهُ الحسن: يَا فتى هل مررت بالصراط؟ قَالَ: لا. فقَالَ: فهل تدري إِلَى الْجَنَّة تصير أم إِلَى النار؟ قَالَ: لا. قَالَ: فما هَذَا الضحك. قَالَ: فما رُؤِيَ ذَلِكَ الفتى بعدها ضاحكًا.
وَرُوِيَ عَنْ ميسرة ابن أبي ميسرة أنه كَانَ إِذَا أوى إِلَى فراشه يَقُولُ: يَا ليتني لم تلدني أمي. فقَالَتْ لَهُ أمه حين سمعته: يَا ميسرة إن الله قَدْ أحسن إليك، هداك للإسلام. قَالَ: أجل ولكن الله قَدْ بين لَنَا أَنَا واردون عَلَى النَّارِ، ولم يبين لَنَا أَنَّا صادرون عَنْهَا. أي لا جزم عنده أنه من المتقين الناجين فلذا اشتد خوفه مَنْهَا.
وكَانَ عطاء السلمي من الخائفين، وقِيْل لَهُ فِي مرضه: ألا تشتهى شَيْئًا. فقَالَ: إن خوف جهنم لم يدع فِي قلبي مَوْضِعًا للشهوة.
وقِيْل لبَعْضهمْ: لماذا إِذَا وعظ بَعْض النَّاس خَوَّفَ وأبكى، وبَعْضهمْ يتكلم ويبكي ويخوف ولا يبكون، فقَالَ: لَيْسَتْ النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
وحكى أن قومًا وقفوا بعابدٍ وَهُوَ يبكي فَقَالُوا: ما الَّذِي يبكيك يرَحِمَكَ اللهُ قَالَ: قرحة يجدها الخائفون فِي قُلُوبهمْ قَالُوا: وما هي؟ قَالَ: روعة النداء بالعرض على الله عز وجل.
وقَالَ معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن المُؤْمِن لا يسكن روعه، حَتَّى يترك جسر جهنم وراءه. هَذِهِ نماذج من مخاوف السَّلَف، وَنَحْنُ أجدر بالخوف مِنْهُمْ، لكن لَيْسَ بكثرة الذُّنُوب بل بصفاء الْقُلُوب وكمال المعرفة.
وإلا فلَيْسَ أمننا وعدم خشوعنا لقلة ذنوبنا، وكثرة طاعاتنا، بل قادتنا شهواتنا وغلبت عَلَيْنَا شقوتنا وإنهما كنا فِي الدُّنْيَا وزينتها وصدتنا عَنْ ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا بقرب الرحيل ننتبه، ولا بكثرة الذُّنُوب تتحرك، ولا بمشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا بخطر الخاتمة انزعجنا، فنسأل الله أن يتداركنا بلطفه وإحسانه وأن يجود عَلَيْنَا بفضله ورحمته إنه على كُلّ شَيْء قدير.
فَوَحَقِّ مَنْ سَمَّكَ السَّمَاءَ بِقُدْرَةٍ ** وَالأَرْضَ صَيَّرَ لِلْعِبَادِ مِهَادَا

إِن الْمُطرَّ على الذُّنُوبِ لَهَالِكٌ ** صَدَّقْتَ قَوْلِي أَوْ أَرَدْتَ عِنَادَا

أَجَلُّ ذُنُوبِي عِنْدَ عَفْوِكَ سَيِّدِي ** حَقِيرٌ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبِي عَظَائِمَا

وَمَا زِلْتَ غَفَّارًا وَمَا زِلْتَ رَاحِمَا ** وَمَا زِلْتَ سَتَّارًا عَلَى الْجَرَائِمَا

لَئِنْ كُنْتُ قَدْ تَابَعْتُ جَهْلِي فِي الْهَوَى ** وَقَضَيْتُ أَوْطَارَ الْبَطَالَةِ هَائِمَا

فَهَا أَنَا قَدْ أَقْرَرْتُ يَا رَبُّ بِالَّذِي ** جَنَيْتُ وَقَدْ أَصْبَحْتُ حَيْرَانَ نَادِمَا

آخر:
أَتَذْهَلُ بَعْدَ إِنْذَارِ الْمَنَايَا ** وَقَبْلَ النَّزْعِ أَنْبَضَتِ الْحَنَايَا؟

رُوَيْدَكَ لا يَغُرُّكَ كَيْدُ دُنْيَا ** هِيَ الْمِرْنَانُ مُصْمِيَةُ الرَّمَايَا

أَتَرْجُو الْخُلْدَ فِي دَارِ التَّفَانِي ** وَأَمْنَ السِّرْبِ فِي خُطَطِ الْبَلايَا؟

وَتُغْلِقُ دُونَ رَيْبِ الدَّهْرِ بَابَا ** كَأَنَّكَ آمِنٌ قَرْعَ الرَّزَايَا

وَأَنَّ الْمَوْتَ لازَمَةٌ قِرَاهُ ** لُزُومَ الْعَهْدِ أَعْنَاقَ الْبَرَايَا

لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ غَاز ** لَهُ الْمِرْبَاعُ مِنَّا وَالصَّفَايَا

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فائدة جليلة من كلام ابن القيم وشيخ الإِسْلام رحمهما الله:

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
فالآية الأولى فِي الجهاد الَّذِي هُوَ كمال القوة الغضبية، وَالثَّانِيَة فِي النكاح الَّذِي هُوَ كمال القوة الشهوانية فالْعَبْد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نَفْسهُ منه، وَهَذَا المكروه خَيْر لَهُ فِي معاشه ومعاده، ويجب الموادعة والمتاركة وَهَذَا المحبوب شر لَهُ فِي معاشه ومعاده.
وَكَذَا يكره المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها خَيْر كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها شر كثير لا يعرفه فالإِنْسَان كما وصفه خالقه ظلوم جهول. قُلْتُ: ولَقَدْ أجاد القائل:
إِذَا كَانَ غَيْرُ اللهِ لِلْمَرْءِ عُدَّةً ** أَتَتْهُ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ

وَقَدْ جَرَّتْ الْحُنَفَاءُ حَتْفَ حُذَيْفَةٍ ** وَكَانَ يَرَاهَا عُدَّةً لِلشَّدَائِد

آخر:
إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللهِ لِلْفَتَى ** فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ

فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذَلِكَ ما اختاره الله لَهُ بأمره ونهيه، فانفع الأَشْيَاءِ لَهُ على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه.
وأضر الأَشْيَاءِ عَلَيْهِ على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا لَهُ، فكل ما يجري عَلَيْهِ مِمَّا يكرهه يكون خيرا لَهُ وَإِذَا تخلى عَنْ طاعته وعبوديته فكل ما هُوَ فيه محبوب هُوَ شر لَهُ.
فمن صحت لَهُ معرفة ربه والفقه فِي أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة الْعَبْد فيما يكره أعظم مَنْهَا فيما يحب.
فعامة مصالح النُّفُوس فِي مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها فِي محبوباتها، انظر إِلَى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعهدها بالسقي والإصلاح حَتَّى أثمرت أشجارها فاقبل عَلَيْهَا يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة.
حتى إِذَا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها، أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تَكُون بحضرة الملوك، ثُمَّ لا يدعها ودواعي طبعها من الشراب كُلّ وَقْت، بل يعطشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك عَلَيْهَا دَائِمًا وإن كَانَ ذَلِكَ أنضر لورقها وأسرع لنباتها.
ثُمَّ يعد إِلَى تلك الزينة التي تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما فِي شجرة العنب ونحوه، فهو يقطع أعضائها، بالحديد، ويلقي عَنْهَا كثيرًا من زينتها وَذَلِكَ عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالْحَيَوَان لتوهمت أن ذَلِكَ إفسادٌ لها وأضرارٌ بها، وإنما هُوَ عين مصلحتها.
وكَذَلِكَ الأب الشفيق على ولده العَالِم بمصلحته، إِذَا رأى مصلحته فِي أن يمسك عَنْهُ العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه، لعلمه أن ذَلِكَ أكبر الأسباب إِلَى فساده وهلاكه.
وكَذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَهَوَاتِهِ حُمْيَةً لَهُ وَمَصْلَحَةً لا بُخْلاً عَلَيْهِ، فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَأَعْلَمُ الْعَالَمِينَ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَمِن آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، إِذَا أَنْزَلَ بِهِمْ مَا يَكْرَهُونَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ لا يُنْزِلَهُ بِهِمْ، نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَلُطْفًا بِهِمْ.
وَلَوْ مُكِّنُوا مِنْ الاخْتِيَارِ لأَنْفُسِهِمْ لَعَجِزُوا عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِم عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلاً، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَوَلَّى تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا، فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمُوقِنُونَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَلَمْ يَتَّهِمُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْجُهَّالِ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَنَازَعُوهُ تَدْبِيرَهُ وَقَدْ حُوا فِي حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِهِ، وَعَارَضُوا حُكْمَهُ بِعُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَسِيَاسَاتِهِمْ الْجَائِرَةِ فَلا لِرَبِّهِمْ عَرَفُوا وَلا لِمَصَالِحِهِمْ حَصَّلُوا. وَاللهُ الْمُوَفِّقُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُ الدِّينِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِن الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ وَلا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالإِنَابَةِ وَحَلاوَةِ الإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ.
وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجُدْبِ وَالضُّرِّ وَمَا يَحْصُلُ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ للهِ فَأَعْظَمُ مِن أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدَرِ إِيمَانِهِ وَلِهَذَا قِيْلَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَكَ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِكَ.
وَطَوْرًا تَكُونُ الْمَصَائِبُ انْتِقَامًا مِن اللهِ تَعَالَى لِمُخَالَفَةِ الْعَبْدِ أَمْرَ رَبِّهِ كَمَعْصِيَةِ آدَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنْ الأَكْلِ مَنْهَا فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ مَعْصِيَةٌ جَزَاءَ عِصْيَانِهِ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ مِنْ رِجْسِ الْمَعَاصِي.
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِن مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ وَلا أَذَى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». اهـ.
وَالْحِكْمَةُ وَاللهُ أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مُرَبِيَة لِلنُّفُوس وَتُمُرِّنُهَا عَلَى احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى الإِنَاءَاتِ وَالرَّزَانَة وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فَتَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَبُلُوغِ الْغَايَاتِ لِذَلِكَ تَجِدُ الرِّجَالَ الأَمَجَادَ الَّذِينَ هُمْ أُشَدُّ مُعَانَاةً لِلشَّدَائِدِ فِي حَيَاتِهِمْ وَصَبَرُوا عَلَى الْمَصَائِبِ وَالآلامِ الَّتِي تَنَالُهُمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ ذِكْرُهُمْ بَاق عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ وَأَجْرُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَام.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.